الأدب النسائي و باولا....
في ما مضي من الأيام،حينما كنت أقرأ الأعمال الروائية النسائية ،كان شعور ما بالنقص ينتابني .....
معذرة للسيدات ، فأنا أعلم حينما يقرءون هذا القول ربما يرغبون في لكم أنفي ( بس أنا برده بنت يا جماعة )
فأنا أحبذ في الروايات أن يتضمنها بعض الموضوعية-و يا حبذا لو الكثير منها -في نظرتها للأمور، و إلا كيف يتناول الأديب قصص حياة لشخصيات متعددة و مختلفة كل شخصية لها ظروفها و تفكيرها الخاص؟
إذًا يتطلب الأمر شيئا من بُعد النظر و الموضوعية
فحينما أقرأ لأديبة ما ، أشعر بأن هناك خطأ ما في الموضوع ،ربما لأن الرواية تشوبها الكثيرمن العاطفة الزائدة التي تحوّلها إلى وسيلة للتعبير عما في نفس الأديبة ويختل مسار الأحداث ؟ أم أن هناك محاولة فاشلة للكتابة بجرأة لكي تثبت أن الأدب الجريء ليس للرجال فقط ؟ أم ماذا ؟
بالطبع هذا ليس في الأدب النسائي فقط ،ربما نراه عند بعض الأدباء الذكور
و لكن لنتحدث هنا عن الأدب النسائي فقط
إن أجمل ما في المرأة هو كونها امرأة ،فلماذا تحيد عن هذا المسار وتتجرد من أنوثتها لمجرد أنها تريد الدخول في السلك الأدبي مثلا ؟
و بالتأكيد هذا ليس في المجال الأدبي فقط ،ربما هناك مجالات أخري - برغم عدم وجود مجهود عضلي يُذكر فيها- إلا أنه يغلُب عليها الوجود الذكري......
حينما تمتزج الموهبة بالمشاعر النسوية تُنتج خليط جميل نادر يعجز عن إبداعه الرجال فيما أعتقد ، فمن الأفضل للمرأة بالتأكيد أن تتمسك بمشاعرها الأنثوية في مجال الإبداع و ليس العكس.....
شعرت بذلك كله حينما قرأت رواية طويلة لإيزابيل الليندي ،وهي رواية ( باولا )والتي شعرت فيها بقوة و حكمة الأنثي حينما تكتب و تشعر بالحياة
فحكمة الأنثي غالبا تكون ممتزجة بالأمومة ،و علي ما أعتقد أن إحساس الأمومة خاصة ينبثق منه العديد من المشاعر منها الحنان و الرغبة في حماية الوليد و القوة و التفكُّر في الذات والروح ( نظرا لما في تجربة الحمل من روحانية)
وفي هذه الرواية تثبت (إيزابيل) ذلك كلّه ،فلم أر (إلي الآن) رواية مُخلَصة-إن جاز هذا التعبير-أكثر من هذه الرواية
فهي تكتبها لابنتها ( باولا ) و التي سقطت في غيبوبة عميقة من جراء داء خطير اسمه (الفرفرين )وكانت في الثامنة و العشرين من عمرها،و حتي لا تسقط (إيزابيل)في بحر الجنون حزناً علي ابنتها الغائبة عن العالم ،أخذت تسجل سيرة ذاتية خاصة بالعائلة لكي تقرأها باولا بعد شفائها من الغيبوبة، و يبدو أنها كانت تكتب في أول الأمر مع شائبة من الأمل في أنها ستفيق بعد فترة قصيرة و لكن الغيبوبة امتدت فتحول العمل من مجرد سيرة ذاتية للعائلة فقط إلي سيرتها الذاتية أيضا و تتضمن الرواية نظرتها الخاصة للحياة ومرحلة طفولتها و مراهقتها و شبابها المفعم بالنشاط و الأمل إلي مرحلة كهولتها و صدمة اكتشافها أنها لم تفعل بعد ما كانت تتمناه إلي حاضرها الأليم .....
تتحدث فيها عن وطنها تشيلي و ما حدث فيه من انقلاب عسكري في السبعينيات أدي إلي إسقاط الحكم الاشتراكي و قيام الدولة العسكرية الدكتاتورية بقيادة العسكري (بينوشيت) ومن ثم هروبها من الوطن هي ثم أسرتها لما تلقته من تهديدات لأنها كانت تقوم بمساعدات للمعارضين الوطنيين ثم عودتها إلي الوطن بعد ثلاثة عشرعاماً
و في ذلك تقول:
(لا أستطيع أن أصف التأثر الذي أحسست به و أنا أجتاز قمم سلسلة جبال الأنديز المهيبة و أطأ أرض بلادي من جديد ، و أتنفس هواء الوادي، و أسمع لهجتنا و أتلقي في مكتب الهجرة تلك التحية ذات النبرة الوقورة،التي تشبه التحذير، وهي سمة تقليدية لدي موظفينا العامين )
أيضا :
(إن هذه العودة إلي وطني هي بالنسبة لي تشبيه مجازي كامل لوجودي .فقد خرجت هاربة وخائفة ووحيدة في غروب شتائي غائم،ورجعت ظافرة و أنا أمسك بيد زوجي في صباح صيفي رائع .إن حياتي مشكلة من المتناقضات، و قد تعلمت أن أري وجهي العملة. ففي لحظات أكبر النجاحات يبقي ماثلاً في ذهني أن لحظات ألم كبيرة أخري تنتظرني في الطريق،و عندما أكون غارقة في المصيبة، أنتظر الشمس التي ستشرق بعد قليل)
و تقطع شريط الذاكرة من حين لآخر-في الرواية بالطبع- لتعود إلي باولا و هي تصف تطورات المرض في حزن أتعبه الفزع
و لذلك أحسست فعلا أن هذه الرواية مخلصة ، فهي لا تتحدث عن قضية بعينها ،سواء قضية دينية أو قضية فلسفية أو اجتماعية الخ الخ
و لكنها كانت تكتب فقط من أجل باولا ،و غرض الرواية كله انبثق من حبها لباولا و حزنها عليها..... فالحزن- نوعا ما- تتكشّف لك من خلاله أموراً كثيرة لم تكن في الحُسبان
فأنا أعتبره نوع من صَنْفرة النّفس.....
و نترككم مع بعض المقتطفات (التي أعجبتني) لهذه الكاتبة الجميلة :
( قالت لي أمي موضحة :
اهدئي! ، فليس في الحلم نذير شؤم ،وليس لحلمك أية علاقة بباولا ،فأنت جميع شخصيات هذا الحلم،أنت الطفلة ذات الإثني عشرة سنة التي مازالت تستطيع التحليق بحرية ،في تلك السن وَدّعتِ البراءة وماتت الطفلة التي كنتها
لقد تجرعتِ شراب الموت الذي لابد لنا نحن النساء جميعاً من شربه عاجلاًَ أو آجلاَ،ألم تلاحظي أننا ما إن نصل سن البلوغ حتي نفقد همة الأمازونيات التي نحملها منذ المهد و نتحول إلي كائنات مخصية تملؤها الشكوك؟ و المرأة التي علقت في الصومعة هي أنت نفسك أيضا،سجينة محدودية حياة البلوغ ،إن الشرط الأنثوي نكبة يا ابنتي،إنه مثل أحجار مربوطة بالرسغين لا يمكن معها التحليق...)
ممممم... (ربما أمي يعجبها هذا القول لكن)لا أعتقد أنها لا تستطيع التحليق ولكن يعجبني هذا المقتطف علي أية حال لما فيه من جدية
(نحن الذين ننتظر في ممر الخطى الضائعة...بعض العبر.... )
................................
( أنكون أنا و باولا قد أحببنا كثيراَ،واستنفدنا بشراهة السعادة المخصصة لنا؟ أنكون قد التهمنا الحياة؟ إنني مازلت أحتفظ بحب غير محدود لها،ولكنها لم تعد تحتاجه كما يبدو...)
.........................................
( إن العملية البهيجة للحبل بطفل،والصبر بحمله، والقوة في إخراجه إلي الحياة، والشعور العميق بالدهشة الذي تنتهي به تلك العملية، لا يمكن مقارنتها إلا بإبداع كتاب، إن الأولاد مثل الكتب، هم رحلة إلي أعماق النفس حيث الجسد و العقل و الروح يبدلون اتجاههم و يتحولون إلي مركز الوجود نفسه)
....................................
(وداعاَ يا باولا المرأة ، أهلا يا باولا الروح )
............................
و في الختام أشكر المترجم (صلاح علماني ) فلولاه لما استطعت قراءة هذه الرواية أبداً(علي أساس مبدأ أهمية المترجم ) و أشكر الأستاذ الذي استعرت منه الكتاب و الذي فيما يبدو قد استنفد كل الأدعية عليّ لأن الكتاب معي منذ فترة طويلة ( معلش يا أستاذ أعمل إيه لو بودّي كنت اشتريته بس يعنييي الكتاب ب70 جنيه ماهو حرام برده ، هرجّعه لك بإذن الله و لا تزعل يا أستاذ )
....
و السلام ختام