نيرمين
تدخل هناء الفصل بتؤدة ، ترمق بعين حذرة من حولها من الفتيات مطأطأة رأسها
يؤلم جسدها وخزات النظرات الموجهة إليها ، ينظرون إليها كأنها حيوان نادر ، لم تحب الموقف
أرادت الجلوس في ركن بعيد بجانب الجدار ، بحثت في أعين الفتيات السفيقة عمن تريد أن تشركها في الجلوس معاً
-تعالي إجلسي معي
سمعت الصوت القوي يقول لها ذلك ، لازت به علي الفور
-أنا نيرمين ، ما إسمك ؟
-هناء ....
نيرمين هي رائدة الفصل و الأكثر تفوقاً وسط الفتيات ، و في حصة القرآن رتلت الآيات التي حفظتها بصوت رخيم متناقض مع جسمها الصغير
نيرمين لطيفة و متواضعة برغم كل ذلك
فكرت هناء في أن لا بأس لو أصبحت مثلها و هي مبتسمة
حينما عادت إلي البيت استذكرت دروسها ، و حفظت الآيات ،و صلت ثم استلقت علي السرير و هي تحلم بأن تكون مثل نيرمين
*******
تتأمل هناء أشكال السحاب المتغيرة من خلال الشباك أثناء الدروس ،لأول مرة تلاحظ أن السحاب يتغير شكله كل دقيقة ، شعرت بالفخر بهذه الملحوظة
-هناء ! إلي ماذا تنظرين يا بنت !؟
تنظر مذهولة إلي المدرّسة التي كانت ترقبها ، نهرتها علي شرودها ، نيرمين دافعت عنها قائلة بأن هناء كانت تتابع الدرس و لم تكن شاردة كما تتصور المدرّسة
*******
-نيرمين ، انظري إلي ظلك
-ماذا ؟
-الظل ...إنه يكون قصيراً عند الظهيرة ، تتمدد و تطول كلما تأخر الوقت
-.....
- نحن الآن في وقت المغرب ، أطول ظل يتكون في هذا الوقت ، أنظري إلي ظلينا معاً ..ألم يبدوان جميلان ؟
نظرت نيرمين باستغراب و قلبت الفكرة في رأسها ، كانت غريبة عليها ، لم تعتد مراقبة الأشياء بهذه الطريقة
-
لا تستطيع حفظ الدروس ، و لا تستطيع حفظ القرآن كثيراً ، فهي لا تفهمه ، ولكنها تخاف من (أبلة مرفت) التي تلسع أيادي الفتيات الشقيات
تردد الآيات محركة جذعها إلي الأمام و إلي الوراء :
( .....إذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة . خافضة رافعة )
**********
لم تستطع تسميع الآيات جيداً ، والتهبت يديها بضرب (أبلة مرفت) وأخذت تبكي
نيرمين ربتت علي كتفها قائلة لها :
- ولايهمك ، لم يكن تسميعك بهذا السوء ، في المرة القادمة احفظي بتركيز أكثر
ظلت نيرمين تسري عنها حتي نسيت هناء الأمر و ضحكت وجنتاها المبللتين بالدموع المالحة
*********
كانت تشتاق إليها كثيراً ، و تحب رؤيتها وسماع صوتها ، و ترتاح للإحساس بالقرب منها
نيرمين ..نيرمين ..نيرمين
- هناء ، أسكتي...لا أستطيع سماع الدرس
( لن أستطيع العودة معك اليوم يا هناء )
لماذا تبتعدين عني يا نيرمين ؟ ألأنني خائبة في المدرسة ؟ هل ترينني بليدة ؟ لاشيء بيدي و لكنني أحبك يا نيرمين ، فلماذا أنت أيضاً لم تحبينني ؟
**********
لم تعد تفهم أم هناء سبب بكاء ابنتها العالي المتواصل هذا اليوم ، فهي لا تريد أن تعلن عن السبب ، تخمن بأن شخصاً ما قد ضايقها في المدرسة ، أخذت تهدهدها
اتخذت هناء من صدرأمها وسادة طرية تدفن فيها كل دموعها و مخاطها و أحزانها الصبية
**********
تري نيرمين تبتعد عنها و تتحدث مع رفيقات أخريات
شيء ما يأكل في صدر هناء مثل النار
صارت وحدها الآن .....
**********
لاحظت هناء شيئا جديداً ، أدركت أن السماء متقلبة الألوان
أحيانا زرقتها تكون فاقعة ، و يصبح فجأة لونها رمادي شاحب و الآن لونها برتقالي و بنفسجي
أحست بنفس الفخر الطفولي
مشت عائدة إلي البيت ..ناظرة إلي ظلها الممتد علي طول الطريق